في غمار تشعُّب الفنون الأدبية والإبداعية، وكثرة أساليب التعبير والإنشاء، نجد أنَّ الرواية المعاصرة، قد نالت أهميةً واضحةً وجليةً لدى الكتاب والمبدعين، لاسيما في وسطنا العربي، ونجدها أيضًا قد شكلت شريحةً كبيرةً من القراء والمتلقين لهذا الفن الأدبي لمختلفي الأمزجة والأهواء. لكن ماذا عن الفكر الصوفي وتجليَاته فيها؟
شهدت الرواية العربية تطورًا ملحوظًا في الأساليب، وابتكار المواضيع، والتنوع في استعمال لغة السرد، لكن ما يلفت الانتباه إلى عدد غير قليل من الروايات العربية المعاصرة، أنها حاولت التجديدَ في محتواها، وعدم الجمود على مواضيع معينة، فلذلك نجد أن بعضها قد توجّه نحو الفكر الصوفي، ومحاولة النهل من مورده، والإفادة من الأفكار والمعطيات والمواضيع الفنيّة، التي يقدمها هذا الفكر الغني إلى الرواية العربية.
وحريٌ بنا أن نعلم أنّ ما يقدمه الفكر الصوفي من مادّة خلّاقة للمبدع العربي أو الأجنبي، يعد صورة من صور نفخ الروح في التراث، وإعادة نشره، واكتشاف جمالياته وأسراره، بالإضافة إلى أنه يشكّل مادةً معرفيةً فكريةً غنيةً، تُقدَّم للقارئ على هيئة نص روائي إبداعي، يستمتع به، ويكتسب معارفَ عن هذا الفكر التراثي.
ولعل أبرز ما يميز الفكر الصوفي، ويجعل الروائيين يتجهون إليه، هو لغته المميزة التي انفردت بحضور الرمز فيها، فالمعجم الصوفي معجم واسع، قدّم معانٍ وتأويلات جديدة لألفاظ وكلمات لها معانيها التقليدية لدينا، فبعض الكلمات المألوفة المعنى، لها دلالات مختلفة، وتوظيف هذا الأمر في الرواية الحديثة، يجعل منها نصًا خفيًا يدفع القارئَ لاكتشاف معانيها، فمثلًا لدينا كلمة المقام، هي باللغة تعني المحل أو المكان، لكنّها في المعجم الصوفي تدل على درجات ورتب متسلسلة، يرتقي بها السالك لهذه الطريقة.
لا ننسى أنّ الفكرَ الصوفي يقدّم مادةً تحتوي على الفكر العجائبي الفانتازي، وهذا الفكر غالبًا ما يجعل الروايةَ أكثر إثارةً ومتعة، وتعطي المجال للقارئ لإطلاق خياله، ومحاولة تصوّر الأحداث العجيبة التي جرت في السرد، هذا بالإضافة إلى جذب المتلقي لإكمال قراءة النص؛ لاستمتاعه به.
وعلى هذا الأساس، ظهر عدد غير قليل من الروايات العربية والأجنبية في الساحة الأدبية، والتي وظّفت المحتوى الصوفي، وأفادت من الشخصيات التاريخية الصوفية، ووظّفتها على أنها شخصيات روائية، وهذا التوظيف لا يعني أن يكون الكاتب الروائي ملتزمًا بالمادة التاريخية التي تحكي عن الشخصية، بل إنّ السياق الروائي يعطيه المجالَ لإعادة بنائها، وتشكيلها بما يتناسب مع أحداث الرواية، وإعطائها صفةَ الشخصية الخيالية، التي تنتمي إلى الرواية التي وُجدت فيها.
ولعل أكثر الموضوعاتِ التي أثارت الكتّابَ والقرّاء في الفكر الصوفي، قضية الحبّ الصوفي، فقد احتوى التراث الصوفي على قصص حبّ لاهبة كثيرة، عاشها بعض المتصوّفة، وقد نُظّمت فيها أشعار وبُنيت عليها القصص، وهذا الموضوع شكّل مادةً روائيةً تستهوي طبقةً كبيرةً من القراء.
إنّ الفكر الصوفي فكر واسع ومتشعب، ويقدّم للمبدع المعاصر مادةً متنوعة، والحقيقة أنّ كثيرًا من الكتاب الروائيين العرب، من أمثال عبد الإله بن عرفة، قد تبنَوا هذا الفكرَ في أعمالهم، فقد أصدر روايات عدّة، منها: جبل قاف، بحر نون، بلاد صاد، وغيرها، ومنها ما زال في طور التأليف، لكن لابد من الإشارة إلى أنّ هذا الفكر خرج من سياق الرواية العربية إلى العالمية، فنجد روايات أجنبية منها “قواعد العشق الأربعون”، و”الرومي: نار العشق” للكاتبة نهال تجدد، وغيرهما، وهذا الأمر يدل على ثراء هذا الفكر، وقابليته للتجديد والتطويع في الأعمال الفنيّة في مختلف اللغات.
سوف تساعدنا أفكارك في تقديم أفضل خدمة.